تَقدم ورُقي الدول وشعوبها مرهون بعوامل أهمها التطور التكنولوجي،العلمي ،مستوى الدخل الفردي وكذالك بعنصرٍ مهمٍ يتمثل بحجم استهلاكها للورق ومدى تمتع أفرادها بمنتوجه “الكتاب” لِما يحملُه من فكرٍ وفنٍّ يجعلان منه عاملاً رئيسياً في تطور العنصر البشري على مر الأزمنة.
قيل في الكتاب أنه ” غذاء العَقل، وغاية الفؤاد، ومقصد الشغف، ومستودعِ الحكمة، هو الجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يغريك” وصديقنا هذا قبل أن يصل إلى يدي القارئ، يمر من مراحل مهمة ويعيش تحديات عدة.وفي هذا الصدد كان لنا حوار مع المصمم وصانع الكتب “مهدي داوود “، وأجابنا على الأسئلة التالية:
*بداية وقبل الغوص في عالم صناعة الكتب ،وبحكم إدارتك سابقاً للعديد من دور النشر حدثنا عن الشروط التي تعتمدونها لتبني منتج ثقافي وتحويله إلى كتاب؟*
الشروط تختلف بين دار نشر وأخرى، حسب قوانين وسياسة النشر الخاصة لكل منها .. مثلاً هناك دور لاتقبل الأعمال الأدبية التي تتطرق لشأنٍ سياسي أو ديني أو عرقي أو جنسي، ودور نشر أخرى تتقبلها، ولكن نستطيع القول أن الشرط الأساسي والوحيد الذي تتفق عليه أغلب دور النشر هو جودة المحتوى ورصانته بحيث يجب أن يكون المحتوى الثقافي جيدا ورصينا مضموماً ولغةً .. غير أن بعض الدور وهي قليلة جداً تتجاوز هذا الشرط للأسف وتذهب لقبول أي عمل يُقدَّم لها مقابل مبلغ مادي غالباً مايكون بسيطا لا قيمة له .. وهذا الأمر أثر كثيراً على الشارع الثقافي العربي عامة والعراقي بشكل خاص..
*ما هي المراحل التي تمر منها الكتابة الأدبية والعلمية قبل أن تصل إلى القارئ بهيئتها المادية الملموسة؟*
يمر العمل الأدبي بأربع مراحل أساسية تكون متشعبة ومتفرعة في بعض الأحيان ولكن سأتكلم عن الأساسية منها فقط.
-المرحلة الأولى : هي مرحلة (التقصي والمراجعة) .. وفيها يقدم المؤلَّف الأدبي للجنة مختصة من موظفي الدار،يعملون على قراءة المحتوى ، تقييمه والتحري إذا ما كان عملا مقتبسا من عمل آخر عربي أو أجنبي. تسمى هذه اللجنة بـ (لجنة السرقات الأدبية) في حال تمت الموافقة من قبلها على هذا العمل ينتقل إلى :
– المرحلة الثانية: مرحلة (التدقيق والتحرير) حيث يدقق العمل الادبي لغوياً ويتم التأكد من عدم وجود أخطاء إملائية أو نحوية قواعدية فيه، بعدها وفي حالات قليلة جداً يُحول العمل إلى التحرير حيث يقوم كاتب آخر مختص في الرواية مثلاً بتغيير بعض الأحداث أو المفردات بالتنسيق والإتفاق مع مؤلف الكتاب.بعد إتمام هذه المرحلة يحول الكتاب إلى :
- المرحلة الثالثة :وهي مرحلة (الإخراج الفني) وفيها يتم تنسيق محتوى الكتاب،توزيعه على الصفحات ،إخراجه داخلياً وإضافة هوية دار النشر والتفاصيل الأخرى لتهئيته للطباعة بعد الانتهاء من هذه العملية تبدأ عملية الإخراج الخارجي وهي (عملية تصميم الغلاف) …. بعد إتمام هذه المرحلة ينتقل الكتاب إلى المرحلة الأخيرة.
- المرحلة الرابعة : مرحلة الطباعة ، يحول الكتاب إلى المطبعة مع ذكر كافة التفاصيل الخاصة به ليدخل في مرحلة تحويلخ من مادة إلكترونية وكتاب رقمي إلى كتاب ورقي ومادة ملموسة.
*من بين الخطوات المهمة التي ذكرتها،عملية تصميم الغلاف حدثنا عن أهميتها ومدى تأثيرها على الكتاب*
من ما لا شك فيه أن غلاف الكتاب هو عامل الترغيب وعنصر الجذب الأول لدى المتلقي وهو المسؤول شبه الأساسي والرئيسي عن تسويق الكتاب أيضاً .. اذا أردتُ أن أصف أهمية الغلاف للكتاب فسأقول بجملة أن الغلاف هو (صدفة التعارف الأولى بين القارئ والكتاب) هو الذي سيعطي الإنطباع الأول للمتلقي فإما أن يدخل القارئ والكتاب في علاقة صداقة فيشتريه وإما أن لايعجبه فيتركه ويبتعد عنه، ويحدث كثيراً أن تتجول في أحد معارض الكتب أو المكتبات دون أن يكون لك أي عنوان أو خلفيه عن كتاب تود شراءه ولكن ما إن يقع نظرك على غلاف كتاب معين من بعيد حتى يجبرك على التقرب منه وأخذ نظرة عن قرب فتقتنيه دون التركيز كلياً وبتعمق في محتواه.
*هل تعتمد في تصميم الأغلفة على قراءة المحتوى كاملا ؟ وما العلاقة التي تربط الصور والألوان بهذا الأخير؟*
-من المهم جداً بالنسبة للمصمّم معرفة محتوى الكتاب الذي يعمل عليه حتى يتمكن من تكوين لوحة مفصلة ومختصرة له كما هو القول (الكتاب باين من عنوانه) عنوان الكتاب هنا هو الشكل الخارجي بشكل كامل وليس اسم المؤلَّف فقط، ولكن لضيق الوقت والتزام المصمّم بأعمال عديدة فهو لايستطيع قراءة الكتاب بشكل كامل ودقيق لذلك نحن نكتفي بالنبذة الشرحية المختصرة التي يقدمها لنا المؤلٍّف عن كتابه.
– سابقاً كان الغلاف يعتمد بشكل كبير على توصيف مشهد معين من مشاهد الكتاب على واجهة الغلاف الأمامية ولكن من التطور الحاصل في تغليف المنتجات والأسلوب الدعائي فيكفي أن يؤدي الغلاف وظيفته التسويقية وهي جذب العين وإشباعها أوَّلاً بالألوان وجمال الصورة ، ثم يترك الأمر بشكل كبير للتأثير في المتلقي من خلال النص الخلفي للكتاب والذي يقرره المؤلِّف أو دار النشر في بعض الحالات لذلك لايشترط كلياً أن يكون هناك علاقة كبيرة بين الصور والعنوان .
*”مهدي داوود” برز إسمك بقوة على العديد من أغلفة الكتب وأثبتت إبداعك وعشقك للميدان الذي لا يخلو من المنافسة،كيف ترى أجواء هذه المنافسة بالعالم العربي وبالعراق خاصة ؟*
المنافسة غالباً ما تخلق أجواء إبداعية أكبر حيث يتسابق المصمّمون في عموم الوطن العربي لتقديم أغلفةٍ أكثر جمالية في كل عام لإبراز أسمائهم في كتب و محافل ومعارض أدبية ثقافية أكبروأكثر .وهي منافسة إيجابية صحية جداً .
إن هذه المنافسة قطعاً لاتغير في علاقة المصمّمين فيما بينهم فإن أغلب المصمّمين يتعاملون بأخوية وصداقة ويتبادلون الآراء ويتناقشون ويدعمون بعضهم باستمرار ،إلا الدخلاء على هذا المجال فهم لايمتازون بهذه الصفات.
*برأيك ماهي مقومات النجاح في مجال التصميم ؟*
هناك عامل ومقوم واحد رئيسي وأساسي للنجاح في هذا المجال وهو (الثقافة البصرية) فالتصميم الرقمي هو فن لايقل عن فنون الرسم والنحت يعتمد على عنصر الجمال والتوازن ووحدات القياس،كلها عناصر تُجتمع في ثقافة واحدة هي الثقافة البصرية .
*إن كانت الأمم قد تطورت فالكتاب هو خير مُعين لكن مع الأسف الشديد يحتل عالمنا العربي رتبا متدنية في نسب القراءة مما بات مشكلة تستدعي دق ناقوس الخطر، بنظرك كيف يمكن لدور النشر التشجيع على القراءة وما هي الرهانات التي من الممكن أن تجازف بها للرفع من نسبة المقروئية ؟*
-أولاً أنا أرجح برأيي تضاؤل نسبة القراء للكتب الورقية لسببين أساسيين. السبب الأول هو
القرصنة الإلكترونية التي ساهمت بشكل كبير في تقليص وجود الكتاب الورقي على رفوف مكاتب المنازل ،حيث صار بإمكان القارئ تحميل أي كتاب يريده مجاناً خلال ثواني عبر الأنترنت، ويمكن لمكتبته الإلكترونية أن تتسع للآلاف والالف من الكتب دون أن يهتم كثيرا في تهيئة مكانٍ وبيئةٍ ملائمة للحافظ عليها ويتحمل عناء تنظيف المكتبة الدوري خاصة لو كان أعداد الكتب هائلة بهذا الحجم.
أما السبب الثاني هو غلاء الكتب ففي الكثير من الأحيان قد تكون بحاجة ماسة لعنوان معين لإتمام بحثك العلمي أو الأدبي أو لسد رغبتك وإشباع اهتمامك في موضوع معين ، لكن المفاجئة تكون عند السؤال عن سعر الكتاب المطلوب منك كمصدر، في بعض الأحيان تكون مبالغها باهضة لايستطيع القارئ تحملها خصوصاً إن كان بحاجة لعدة عناوين في وقت واحد،وهذا ما يدفعه للرجوع للسبب الأول .. وهو تحميل هذه الكتب من الأنترنت وقرائتها .
-أما عن إيجاد حلول فهناك حلول عديدة، مثلاً تشكيل لجان خاصة تابعة لوزارة الثقافة تُعنى بمراجعة القرصنة الإلكترونية ومنع انتشار الكتب بهذه الطريقة وحماية حقوق الدار والمؤلف بالقانون والدستور وهي موجودة في بعض الدول ولكن ليس جميعها … أيضاً لابد من توحيد أسعار الكتب بحسب النوع أو الفئة او الحجم أو نوع الطباعة وماشابه ،ومنع تداول النسخ الكوبي (COPY) في السوق حتى لايتم بخس حق النسخ الأصلية للكتب وبهذه الطريقة يمكن أن تباع بسعر أقل من الحالي .
*هناك منافسة شديدة يعرفها هذا المجال ..من وجهة نظرك هل الفارق بالنسب تحكمه شهرة الدار أم شهرة الكاتب نفسه وما في جعبته ؟*
لايمكن وضع مقياس معين هنا لأن شهرة الدار أحياناً تكون هي العامل الأساسي لزيادة مبيعات الكتاب وفي أحيان أخرى ترجح الكفة لشهرة الكاتب،هذا بالنسبة للتنافس التجاري ، لكن نجاح الكتاب يعتمد أولاً وآخراً على محتواه .، ولابد للإشارة هنا أن ارتفاع نسبة مبيعات الكتاب لاتعني أنه ناجح ولا العكس.
*ماهي الصعوبات التي تواجهها دور النشر؟*
هناك تحديات ومواجهات عديدة بدأت في الآونة الأخيرة تهدد دور النشر واستمرارية عملها وهي نقاط كثيرة ومتشعبة قد أستطيع تلخيصها وتقليصها قدر الإمكان لكم.
– اولاً : ارتفاع تكلفة الطباعة : مما لاشك فيه أن مع التطور الطباعي والتكنولوجي وأساليب الطباعة والتغليف في تزايد مستمر مع الوقت وهذا التطور الحاصل يتسبب في غلاء أسعار الورق والأحبار مما يؤثر بشكل ملحوظ على أسعار طباعة الكتاب، وغالباً ما يرفض المؤلف طباعة كتابه بهذه الأسعار .. غير أن بعضهم يذهب مباشرة لخيار النشر الإلكتروني .
-ثانياً : النشر الالكتروني :
يساهم بشكل كبير في تقليل المنتج الأدبي في الشارع الثقافي وهو يشكل خطراً كبيراً أيضاً على الكتاب الورقي ويهدد وجوده كما اشرت سابقاً في أجوبة احد الأسئلة.
-ثالثاً : الرقابة والقرصنة :
غياب دور الجهات الرقابية يؤثر سلباً وبشكل كبير على دور النشر، ما سمح بانتشار الكتب المستنسخة بشكل كبير والتي نطلق عليها الـ (COPY) والتي تباع بسعر التراب غالباً.
– رابعاً : دور النشر الربحية :
انتشرت بشكل كبير جداً في الآونة الأخيرة وأصحاب هذه الدور يتعاملون مع الكتاب كمنتج تجاري وليس أدبي ثقافي حيث أنهم يبحثون عن تحقيق ربح مادي ولو كان بسيط جداً من خلال طباعة الكتاب. هذه الدور ساهمت بشكل كبير في تدني الشارع الثقافي ونشر أي كتاب دون دخوله في المراحل الرقابية والمراجعة التي أشرنا لها مسبقاً ما أدى الى انتشار الكتب الرديئة في المحتوى والطباعة.
*اتخد الكتاب على مر الأزمة أشكالا مختلفة،فعلى سبيل المثال اعتمد المصريون القدامى على الورق البردي،وخط الكتاب العراقي القديم على الواح الطين،واليوم في عصر التكنولوجيا نجد أن الكتاب قد تغير بشكل كبير بشكلة الظاهري والداخلي .. كيف ترى هذا التطور وماهو تأثيره على الكتاب؟*
أستطيع تحديد الفترة الزمنية التي بدأ الكتاب يتخذ فيها شكلاً جديد كلياً في منطقتنا العربية في أواسط الستينات ، وقد بدى ذلك ملحوظ بشكل كبير على أغلفة الكتب ، حيث تحولت وظيفة الغلاف من حماية الكتاب فقط إلى لوحات فنية ساحرة تعبر بالشكل والمضمون عن المحتوى الداخلي وتساهم في شكل كبير في الترويج له وترسيخه في ذاكرة القارئ أيضاً حيث أصبح الغلاف اليوم بمثابة (اللوجو) الخاص للكتاب أو دار النشر الذي يتعرف الناس من خلاله عليهم .لاشك أن هذا التطور ساهم بشكل كبير و إيجابي في الشارع الأدبي وأضاف جمالية أكبر للكتاب خصوصاً بعد دخول التصميم الرقمي إلى هذا المجال ،فسابقاً كان يعتمد الرسم والخط والنسخ بالتحبير على تجليد الكتب . ولكن بعصر الحداثة الحالي تحول الأمر الي التصميم الرقمي والطباعة المباشرة على الغلاف .
لكن هذه الحالة الإيجابية أتت بسلبيات أيضاً لأنها ساهمت بشكل كبير بظهور ما نطلق عليهم ( الفوتوشوبرز) أو (مصممين الخمسة دولار) والذين بدأو يسيطرون على هذا المجال كونهم يصممون بالفوتوشوب بأجر متدني جداً وغالباً هم لايصممون إنما يستخدمون صور جاهزة ويلصقون عليها عنوان الكتاب، قطعاً هم يفتقدون إلى الحد الأدنى من المعرفة بأسس التصميم الفني كعلم، ويخبطون عشوائيَّاً قصًّا ولصقاً ويسيئون لهذا المجال وللشارع الثقافي ايضاً .
انتشار هذه الحالة ومع التطور السائد أيضاً أخذ المصممين وصناع الكتاب أيضاً الى زاوية ضيقة ومغلقة ،وهي التفاعل مع المؤلف والناشر . كون الغلاف صمم إلكترونياً فالاعتقاد السائد هنا أن التعديلات على التصميم ستستغرق ثواني ، فلماذا لا نعدل عليه ؟ هذا الامر اضطر أغلب صناع الكتب الى الموافقة أحيانًا على غلاف سيء الشكل أو سقيم الذوق لكي يتوافق مع ذائقة الناشر رؤية المؤلف والتي تتعارض غالباً قواعد الثقافة البصرية و المعايير الترويجية والتسويقية ..واذا حاول صانع الكتب هنا شرح الأسباب للناشر او المؤلف .. لماذا اخترت كذا وكذا .. فسيكون الأمر أشبه بمن يتحدث إنجليزية شكسبير مع شخص لا يجيد سوى جملتين من إنجليزية الشوارع..!
أحلام الإدريسي